د. عبدالوهاب الأفندي
لعل أبرز مظاهر الأزمة الحالية في السودان هي أن أهل الحكم لا يدركون على ما يبدو وجود أزمة، ناهيك عن حجمها وأبعادها.
فعلى سبيل المثال نجد الحكومة تنصح الناس بمقاطعة السلع الغذائية التي غلت أسعارها، كأن غالبية المواطنين لديها خيارات حول ما تأكل. ولعمري أن هذا يذكر بنصيحة ماري انطوانيت زوجة الملك لويس السادس عشر للفقراء الذين تظاهروا طلباً للخبز أن يأكلوا الكعك بدلاً منه. فإذا كانت غالبية الشرائح المحدودة الدخل، بمن فيها معظم أفراد الطبقة المتوسطة (سابقاً)، يستطيعون بجهد جهيد تناول وجبة أو اثنتين في اليوم من أبسط المكونات، فأي مجال أمامهم لمقاطعة السلع سوى الإضراب عن الطعام كلية؟
وفيما تتجه البلاد نحو هاوية الإفلاس الاقتصادي، نشهد الاتجاه إلى التصعيد مع الجنوب بدل الاتجاه التصالحي الذي كان سيعين الاقتصاد عبر تشجيع التجارة البينية والتقاسم المقبول لعائدات النفط وإعفاء ديون البلاد الخارجية وتدفق المساعدات.
وفي نفس الوقت يحفل الإعلام بتصريحات وتحركات دعائية لكبار المسؤولين تتحدث عن دعم الزراعة لسد الفجوة التي خلفها انقطاع عائدات النفط، مع أن المعلوم أن أي توسع زراعي لا يمكن أن يتم بين عشية وضحاها. ولو كانت هناك جدية في هذا الأمر لكنا شهدنا استثمار عائدات النفط خلال العقد الماضي في الزراعة والصناعة وغيرها من أوجه النهضة الاقتصادية بدلاً من تبذيرها في رفع مخصصات المسؤولين وشراء الولاء السياسي وتمويل حركات التمرد في دول مجاورة والحروب في دارفور وغيرها.
سياسياً كذلك نجد أن أركان النظام بعيدون كل البعد عن الشعور بعمق الأزمة وتبعاتها. فمن جهة نجد في تصريحات المسؤولين استخفافاً بالمعارضة وتأكيدات بأن النظام لا يعاني إشكالات في الشعبية. ومن جهة أخرى تتصرف الحكومة كأنها تفتقد أي دعم شعبي، كما يظهر من التعديات على حرية الصحافة واستهداف المعارضة.
ومن جهة ثالثة نسمع دعوات من الحكومة للحوار مع المعارضة ومحاولات لإغراء بعض الأحزاب بالمشاركة في السلطة. ومن جهة رابعة تقول الحكومة بأن البلاد الآن في خطر عظيم، وقد أصبحت مهددة بالمؤامرات، وتدعو الأحزاب لتقديم مصلحة الوطن على المصالح الحزبية، أي أن تدعم النظام بدون انتظار تنازلات ومشاركة حقيقية في السلطة.
وكنتيجة لهذه التضاربات فشل النظام في إقناع القوى السياسية بالمشاركة في الحكومة التي كان من المنتظر أن يعاد تشكيلها مع انفصال الجنوب في التاسع من تموز/يوليو الماضي، ولكنها لم تر النور حتى كتابة هذه السطور، وذلك بسبب الاختلاف على شروط المشاركة.
فالنظام يريد من الأحزاب أن تعترف ضمناً بشرعية فوز الحزب الحاكم في انتخابات العام الماضي التي قاطعتها معظم الأحزاب، وتبرأت منها الأحزاب المعارضة القليلة التي شاركت فيها زاعمة أن حجم التزوير فيها فاق أسوأ تخوفاتها. ولكن أحزاب المعارضة تشترط التعامل مع الوضع الحالي بأنه انتقالي، لأنها لا تسلم بشرعية النظام ولا الانتخابات التي نظمها، كما أنها ترى أنه مهما كان أساس الشرعية في الماضي، فإن تقسيم البلاد خلق واقعاً جديداً يحتاج إلى بناء شرعية جديدة.
وتدعو الأطراف المتشددة في المعارضة إلى استقالة الحكومة اعترافاً بفشلها وتفريطها في وحدة البلاد، ومسؤوليتهاعن تفاقم الأزمة الاقتصادية مع استمرار أزمة دارفور وتفجر أزمات جديدة في جنوب كردفان والنيل الأزرق، وتدعو إلى تنصيب حكومة انتقالية تتولى الإشراف على انتخابات جديدة. ولكن الأطراف المعتدلة تقبل باستمرار الرئيس البشير على رأس حكومة موسعة تمثل فيها كل القوى السياسية الرئيسية، على أن تتولى هذه الحكومة إعداد دستور جديد للبلاد يفضي إلى انتخابات جديدة. ولكن الحكومة رفضت هذا المقترح، مصرة على أن تكون المشاركة على شروطها، مما يعني طرح عدد من الحقائب الوزارية والمناصب الأخرى على كل حزب على حدة، مع احتفاظ الحزب الحاكم بالأغلبية المطلقة وحق الرئيس في إقالة الوزراء متى شاء.
إذا كان هناك عنصر إيجابي في هذا الوضع فهو وجود توافق مبدئي حول ضرورة تعديل الدستور بمشاركة فاعلة من المعارضة، مع استمرار الاختلاف حول شكل هذه المشاركة.
فقد أصبح من المحتم إعادة صياغة الدستور، وقد قبلت الحكومة من ناحية المبدأ مشاركة أحزاب المعارضة في مفوضية الدستور. ولكن إجازة الدستور الجديد تبقى في يد البرلمان الذي يهيمن الحزب الحاكم على أكثر من 95' من مقاعده. وهذا يعني أن مشاركة الأحزاب في مفوضية الدستور، إذا لم تكن هذه المشاركة معبرة عن التركيبة السياسية مع الإقرار بإلزامية ما يتفق عليه، فإنها لن تتعدى إضفاء المشروعية على ما سيقرره برلمان المؤتمر الوطني. من هنا لعله من الأفضل أن تتركز المفاوضات بين الحكومة والأحزاب في هذه المرحلة حول الدستور وتوجهاته بدلاً من التفاوض حول المشاركة في حكومة يهيمن عليها المؤتمر الوطني. فإذا قبلت الحكومة أن تشرك المعارضة في وضع الدستور فعلياً، وليس كمحاولة تمويه، فإن هذه ستكون خطوة مهمة إلى الأمام. عندها يجب أن تكون الخطوة التالية هي ترتيب انتخابات مبكرة على أساس الدستور الجديد، شريطة أن تكون محل إجماع وقبول هذه المرة. ويمكن بعد ذلك أن تشكل الحكومة الجديدة على أساس الأوزان الانتخابية، فيحسم هذا الأمر قضايا الخلاف حول المشاركة في السلطة وشروطها وكيفيتها.
هذه الخطوات، إذا تحققت، يمكن أن تصبح البديل الأقل كلفة، عوضاً عن الانهيار أو توسيع الصراع المسلح أو إسقاط النظام بأي وسيلة. ولكن حتى تتحقق هذه الخطوة لا بد للنظام من أن يدرك أن هناك أزمة، وأن يبذل جهداً حقيقياً للتقارب مع الآخرين. وهذا الأمر من أصعب الأمور على الأنظمة التي ترى أنها قادرة على البقاء في السلطة بالقوة، وأن خصومها أضعف من أن يجبروها على الرحيل. وفي الغالب فإن هذه الأنظمة لا تدرك أبعاد المشكلة إلا بعد فوات الأوان، وعندها لن يمكن لأي قدر من التنازلات أن ينقذها.
شهدنا هذا في مصر وتونس وليبيا، ونشهده اليوم في سورية واليمن. قبل عقد من الزمان، عندما وصل الأسد الابن إلى السلطة، كان غاية ما تطمح له المعارضة هو إتاحة مساحة صغيرة لحركات المجتمع المدني لكي تتحرك بحرية. ولكن النظام لم يصبر حتى على الاجتماعات التي كانت تعقد داخل شقق لمناقشة قضايا البلاد.
اليوم فإن الشعب 'يريد إعدام الرئيس'، كما تقول شعاراتهم. ولم تجد حتى الآن كل القرارات المتلاحقة التي يصدرها الرئيس بصورة شبه يومية للاستجابة لمطالب كان المعارضون يعتبرونها قبل أشهر ضرباً من الخيال، في إنقاذ الأسد من حكم الإعدام الشعبي الصادر في حقه، وهو حكم من المؤكد أن يجري تنفيذه في القريب العاجل. نفس الإشكاليات واجهها مبارك وبن علي وسيف القذافي ورئيس اليمن. كل منهم قدم خلال أيام تنازلات انتظرها المعارضون عقوداً، ولكنها لم تجد القبول ولم تنقذ الدكتاتور من المصير الحتمي، لأنها جاءت بعد فوات الأوان.
كنت في السابق قد قلت إن أمام النظام في الخرطوم أياماً لا أشهر لكي يتدارك أمره. ولا أرى أن ما جرى من تطورات يغير من هذا الحكم. ذلك أن انهيار الأنظمة لا يتم حكماً لحظة سقوطها، وإنما في وقت ارتكاب الأخطاء المميتة أو تفويت الفرص التي لا تعوض. فالأنظمة في مصر وتونس ما كانت لتنهار بالسرعة التي انهارت بها لو لا أنها كانت ساقطة بالفعل. فقد أحكمت عزلة النظامين حوالي عام 2005، حين تم إحكام سيناريو الوراثة في مصر، وفقدت كل القوى في مصر وتونس الأمل في أي تغيير إيجابي. وابتداء من تلك النقطة أخذت الأنظمة تراكم الأخطاء، مثل عدوان النظام التونسي على القضاة والناشطين والإعلاميين، وقرار النظام المصري تزوير انتخابات عام 2010 بصفاقة مبالغ فيها حتى بمقاييس نظام جثم على الأنفاس عقوداً، إضافة إلى ولوغ النظامين في فساد لم يعد أي منهما يتستر عليه.
في الحالة السودانية فإن النظام أضاع فرصة لا تعوض عبر الطريقة التي أدار بها انتخابات العام الماضي، وأضاع قبل ذلك فرصة الحفاظ على وحدة السودان. وهاهو يضاعف مشاكله بمعالجاته غير الحكيمة للأزمة الاقتصادية التي خلقها، وبفشله في التوصل إلى وفاق مع المعارضة.
وإذا استمر الأمر في هذا الاتجاه فإن النتيجة تكون محسومة. وليست هناك سوى فرصة محدودة أمام النظام للأخذ بزمام المبادرة والتحكم في الأمور قبل فوات الأوان. وقد يكون التوافق حول آلية صياغة الدستور الجديد نقطة البداية. فهل نأمل ألا تضيع هذه أيضاً؟
' كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن
القدس العربي